فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآية رقم (13):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}
{أَمْ} منقطعة. والضمير في {افتراه} لما يوحى إليك. تحداهم أوّلا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فإذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد {مِّثْلِهِ} بمعنى أمثاله، ذهاباً إلى مماثلة كل واحدة منها له {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة لعشر سور لما قالوا: افتريت القرآن واختلقته من عند نفسك وليس من عند الله، قاودهم على دعواهم وأرخى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي وأنّ الأمر كما قلتم، فأتوا أنتم أيضاً بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام.
فإن قلت: كيف يكون ما يأتون به مثله، وما يأتون به مفترى وهذا غير مفترى؟ قلت: معناه مثله في حسن البيان والنظم وإن كان مفترى.

.تفسير الآية رقم (14):

{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
فإن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله: {لَكُمْ فاعلموا} بعد قوله: {قُلْ}؟ قلت: معناه فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، وقد قال في موضع آخر: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فاعلم} [القصص: 50] ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله:
فَإنْ شَئْتُ حَرَّمْتُ النْسَاءَ سِوَاكُمُ

وووجه آخر: وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في {لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ} لمن استطعتم، يعني: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أي أنزل ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله، من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه {و} اعلموا عند ذلك {و أَن لاَّ إله إِلاَّ} الله وحده، وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} مبايعون بالإسلام بعد هذه الحجة القاطعة، وهذا وجه حسن مطرد. ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه: فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، وازدادوا يقيناً وثبات قدم على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد. ومعنى {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} فهل أنتم مخلصون؟

.تفسير الآيات (15- 16):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)}
{نُوَفّ إِلَيْهِمْ} نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء. يقال للقراء منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحم وتصدّق: فعلت حتى يقال، فقيل ولمن قاتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء، فقد قيل: وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلاً أو وصلوا رحماً، عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم. وقرئ: {يوفّ} بالياء على أن الفعل لله عز وجل. وتوفَّ إليهم أعمالهم بالتاء، على البناء للمفعول. وفي قراءة الحسن: {نوفي}، بالتخفيف وإثبات الياء، لأنّ الشرط وقع ماضياً، كقوله:
يَقُولُ لاَ غائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ

{وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم، يعني: لم يكن له ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي كان عملهم في نفسه باطلاً، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. وقرئ: {وبطل} على الفعل.
وعن عاصم: وباطلا بالنصب، وفيه وجهان: أن تكون ما إبهامية وينتصب بيعملون، ومعناه: وباطلاً، أيّ باطل كانوا يعملون. وأن تكون بمعنى المصدر على: وبطل بطلاناً ما كانوا يعملون.

.تفسير الآية رقم (17):

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)}
{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ} معناه: أمّن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة {مّن رَّبّهِ} أي على برهان من الله وبيان أنّ دين الإسلام حق وهو دليل العقل {وَيَتْلُوهُ} ويتبع ذلك البرهان {شَاهِدٌ مّنْهُ} أي شاهد يشهد بصحته، وهو القرآن {مِنْهُ} من الله، أو شاهد من للقرآن، فقد تقدّم ذكره آنفاً {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن {كِتَابُ موسى} وهو التوراة، أي: ويتلو ذلك البرهان أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ: {كتاب موسى} بالنصب، ومعناه: كان على بينة من ربه، وهو الدليل على أنّ القرآن حق، {وَيَتْلُوهُ}: ويقرأ القرآن {شَاهِدٌ مّنْهُ} شاهد ممن كان على بينة. كقوله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِه} [الأحقاف: 10]، {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43]، {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} ويتلو من قبل القرآن والتوراة {إِمَاماً} كتاباً مؤتما به في الدين قدوة فيه {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على المنزل إليهم {أولئك} يعني من كان على بينة {يُؤْمِنُونَ بِهِ} يؤمنون بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزِّبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} وقرئ: {مُرية} بالضم وهما الشك {مِّنْهُ} من القرآن أو من الموعد.

.تفسير الآيات (18- 22):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}
{يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم ويشهد عليهم {الأشهاد} من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولداً وشريكاً، ويقال {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} فوا خزياه ووا فضيحتاه. والأشهاد: جمع شاهد أو شهيد، كأصحاب أو أشراف {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد، وهم الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} وقرئ: {يضعف} {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي. ويحتمل أن يريد بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ دون الله أَوْلِيَاء} أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} فكيف يصلحون للولاية. وقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} اعتراض بوعيد {خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم ما لا خسران أعظم منه، وهو أنهم خسروا أنفسهم {وَضَلَّ عَنْهُم} وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتها {لاَ جَرَمَ} فسر في مكان آخر {هُمُ الأخسرون} لا ترى أحداً أبين خسراناً منهم.

.تفسير الآية رقم (23):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)}
{وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة. ومنه قولهم للشيء: الدنيء الخبيت. قال:
يَنْفَعُ الطَّيِّبُ الْقَلِيلُ مِنَ الرِّز ** قِ وَلاَ يَنْفَعُ الْكَثِيرُ الْخَبِيتُ

وقيل: التاء فيه بدل من الثاء.

.تفسير الآية رقم (24):

{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم، وفريق المؤمنين بالبصير والسميع، وهو من اللف والطباق. وفيه معنيان: أن يشبه الفريق تشبيهين اثنين، كما شبه امرؤ القيس قلوب الطير بالحشف والعناب، وأن يشبهه بالذي جمع بين العمى والصمم، أو الذي جمع بين البصر والسمع. على أن تكون الواو في {والأصم} وفي {والسميع} لعطف الصفة على الصفة، كقوله:
الصَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالآيِبِ

{هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يعني الفريقين {مَثَلاً} تشبيهاً.

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)}
أي أرسلنا نوحاً بأني لكم نذير. ومعناه أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلما اتصل به الجارّ فتح كما فتح في {كَانَ} والمعنى على الكسر، وهو قولك: إنّ زيداً كالأسد. وقرئ بالكسر على إرادة القول {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} بدل من {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ} أي أرسلناه بأن لا تعبدوا {إِلاَّ الله} أو تكون (إن) مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير وصف اليوم بأليم من الإسناد المجازي لوقوع الألم فيه.
فإن قلت: فإذا وصف به العذاب؟ قلت: مجازي مثله، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهارك صائم، وجدّ جدّه.

.تفسير الآية رقم (27):

{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
{الملا} الأشراف من قولهم: فلان مليء بكذا، إذا كان مطيقاً له، وقد ملؤا بالأمر؛ لأنهم ملؤا بكفايات الأمور واضطلعوا بها وبتدبيرها. أو لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون أو لأنهم يملؤن القلوب هيبة والمجالس أبهة أو لأنهم ملاء بالأحلام والآراء الصائبة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة وأنّ الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ ومواز لهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ}. أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكاً لا بشر. والأراذل جمع الأرذل كقوله: {أكابر مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123] «أحاسنكم أخلاقاً» وقرئ: {بادي الرأي} بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأي أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف، أصله: وقت حدوث أوّل رأيهم، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه. أرادوا: أن اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالاً ما كانوا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم، ولقد زلّ عنهم أن التقدّم في الدنيا لا يقرب أحداً من الله وإنما يبعده، ولا يرفعه بل يضعه، فضلاً أن يجعله سبباً في الاختيار للنبوّة والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة ورفض الدنيا، مزهدين فيها، مصغرين لشأنها وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله {مِن فَضْلِ} من زيادة شرف علينا تؤهلكم للنبوّة، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} فيما تدّعونه.